أتممت قراءة كتابين في الآونة الأخيرة، طفل الممحاة لابراهيم نصرالله، ثاني كتب سلسلة الملهاة الفلسطينية. مقارنة بالكتاب الأول (طيور الحذر)، وجدت نصف الكتاب الأول مملاً من ناحية الأحداث، لكن كالعادة نجح الكاتب في أن يرسم صورة مفصّلة في ذهن القارئ للشخوص والمكان، ما هوّن قليلاً من الاستفاضة في مواضيع حياتية قد لا تكون مشوّقة لدرجة كبيرة للبعض، يعني أحياناً إجادة استخدام اللغة ومهارة الوصف تعوّض عن جوانب أخرى، فلم تكن تفاصيل مشكلة الثأر بين عائلة "الطفل" والعائلة الأخرى في المنطقة المجاورة تشدني كثيراً، ولكن كما أسلفت كنت مستمتعاً ببراعة الكتابة فحسب، أمّا علاقة الطفل بوالديه وأخواته فكان فيها ما كان من قراءة جميلة للنفس الإنسانية وطبائع البشر. في منتصف الكتاب تقريباً وبعد أن يقف الطفل أمام باب سيد البلاد، وما تلا ذلك من أحداث وتطورات ووصف للشارع وانفعالاته في تلك الحقبة شدني أكثر -بطبيعة الحال-، والمقاربة الغير متوقعة من "الطفل" - الذي أصبح جندياً شاباً- ودوافعه الغير متوقعة للرغبة العارمة في العودة منتصراً من أرض المعركة بعد انضمامه لجيش الإنقاذ كانت فريدة بحقّ! يحيّرني في الكتّاب خيالهم الجامح، وأشعر بحكّة في جلدي وأنا أحاول أن أحزر إن كان هذا التفصيل أو ذاك مبنياً على شخصية وأحداث حقيقة أم هو خيال محض، أم إن كان خليطاً بين الاثنين وهذا أغلب الظن. المهم، كعادة ابراهيم نصرالله، يروي ما حصل من زوايا متعددة من خلال شخصيات متعددة، تدفعك للتفكير والتحليل والتعجب في كثير من الأحيان، والبحث في أحيان أكثر، وتسارع الأحداث في الأجزاء الأخيرة جعلني كالعادة أسقط في فخ الصفحة الأخيرة الفارغة -الي بكرهّا كره العما!- عندما أقلبها ولا أجد شيئاً وأشعر بالقهر لأنّني أريد المزيد، يبدو أن هذا أصبح مقياسي الجديد لجودة كتاب ما، نجح طفل الممحاة في الاختبار، لكن ليس بجدارة الطفل الذي أخذ على نفسه تعليم الطيور الحذر، الجزء التالي سيكون "زيتون الشوارع"، سأقرأه بعد استراحة كتاب أو اثنين من الملهاة.
أمّا الكتاب الثاني، عن المدينة التي أحببتها قبل أن التقيها وتخيّلت نفسي فيها قبل أن أخوض في تفاصيل ما حدث بها (مطلوب ذاكرة مع صورة أخذت في بيروت)، بيروت، من خلال كتاب المناضل بسام أبو شريف الذي التقيته أثناء وقيع كتابه الجديد "بيروت مدينتي". للحقيقة، الوصف الأنسب لتناولي هذا الكتاب هو أنّني التهمته بنهم، فهذه الحقبة من تاريخ النضال الفلسطيني في بيروت تحتل مكاناً خاصاً في نفسي، لربما بدأ هذا الشعور عندما شاهدت فيلم "ناجي العلي" وأنا طفل، لا زلت أذكر خليط المشاعر التي عصفت بي وأنا أشاهد مشهد خروج الفدائيين منها باتجاه الموانئ (أول بضعة دقائق من هذا الفيديو). يتحدث أبو شريف في هذا الكتاب عن علاقته ببيروت، ويتأرجح في فصوله بين بدايتها عند دخوله الجامعة الأمريكية وبين نهايتها عند خروجه منها والأحداث التي سبقت ذلك، بين الخاص والعام كان الكتاب مشوّقاً، ممتعاً، وفي أحيان مؤلماً؛ عند وصفه لجسد غسان كنفاني الممزق عند اغتياله وكيف بقي نصف جسده الأعلى قطعة واحدة يعلوها وجه باسم في حين طار أصبعه الذي بقي خاتم زواجه متمسكاً فيه ليستقر على أغصان إحدى الأشجار، عند سقوط كل شهيد، عند حصول كل خيانة، عند صعودهم على الباخرة، الكثير ممّا يقشعرّ له البدن الحيّ، والكثير ممّا يدعو للفخر من صمود في معادلة لم تكن يوماً متكافئة.
بت الآن أعرف أكثر عن بيروت، وفي بالي صورة تكاد تكون واضحة عن جامعتها الأمريكية، فنادقها ومقاهيها، وعلى سيرة مقاهيها، ضحكت عندما قرأت عن أحد المقاهي الذي كان اسمه "الهورس شو"، حيث كان ملتقى للصحافيين والمثقفين في منطقة الحمرا، ضحكت لأن أحد المقاهي المعرفة في عمّان في منطقة الجامعة الأردنية الذي أرتاده وأصدقائي يحمل نفس الاسم، وتكفيك زيارة واحدة لتعرف أن تشابه الاسم لا يعني بأي حال من الأحوال تشابه المضمون، بل سخرية القدر أن يكونا على طرفي نقيض، وهنا لا أنتقد هورس شو عمّان ولا روّاده، لكنّي ازددت اقتناعاً أنّني ولدت في الزمن الخطأ.
وددت لو أسهب بسام أبو شريف في التفاصيل أكثر في بعض المناطق، ولكن يبدوا أنّه ارتأى أن يتناول أهم محطات النضال في بيروت، قبلها وبعدها، دون الاستفاضة، وللحق لا أعرف كم كتاباً يلزم للإحاطة بكل التفاصيل في كل الأحداث، ولكي لا يفهم من كلامي أن الكتاب لا يحمل القيّم أو المفصّل، أأكد على أنّني عرفت الكثير لأول مرّة، عن عمليات الجبهة الشعبية في اختطاف الطائرات، عن خطف الطائرات في "مطار الثوار" في الأردن الذي لا نسمع عنها كثيراً، عن أحداث أيلول، عن الضغط باتجاه الخروج من بيروت منذ اليوم الثالث للعدوان الإسرائيلي، عن الموقف الأمريكي، وغيرها. يعني فكّر في هذا الكتاب بالنسبة لتواجد الفلسطينين في بيروت ككتاب "عالم صوفي" بالنسبة للفلسفة، مقرر 101، لا غنى أو ضير في قراءته حتّى لو لم تكن مولعاً بموضوعه.
ملاحظة: الكتابان موجودان في مكتبة "ريدرز" في كوزمو.
http://naserz.blogspot.com