Feb 20, 2010

طفل الممحاة (ابراهيم نصرالله) و بيروت مدينتي (بسام أبو شريف)



أتممت قراءة كتابين في الآونة الأخيرة، طفل الممحاة لابراهيم نصرالله، ثاني كتب سلسلة الملهاة الفلسطينية. مقارنة بالكتاب الأول (طيور الحذر)، وجدت نصف الكتاب الأول مملاً من ناحية الأحداث، لكن كالعادة نجح الكاتب في أن يرسم صورة مفصّلة في ذهن القارئ للشخوص والمكان، ما هوّن قليلاً من الاستفاضة في مواضيع حياتية قد لا تكون مشوّقة لدرجة كبيرة للبعض، يعني أحياناً إجادة استخدام اللغة ومهارة الوصف تعوّض عن جوانب أخرى، فلم تكن تفاصيل مشكلة الثأر بين عائلة "الطفل" والعائلة الأخرى في المنطقة المجاورة تشدني كثيراً، ولكن كما أسلفت كنت مستمتعاً ببراعة الكتابة فحسب، أمّا علاقة الطفل بوالديه وأخواته فكان فيها ما كان من قراءة جميلة للنفس الإنسانية وطبائع البشر. في منتصف الكتاب تقريباً وبعد أن يقف الطفل أمام باب سيد البلاد، وما تلا ذلك من أحداث وتطورات ووصف للشارع وانفعالاته في تلك الحقبة شدني أكثر -بطبيعة الحال-، والمقاربة الغير متوقعة من "الطفل" - الذي أصبح جندياً شاباً- ودوافعه الغير متوقعة للرغبة العارمة في العودة منتصراً من أرض المعركة بعد انضمامه لجيش الإنقاذ كانت فريدة بحقّ! يحيّرني في الكتّاب خيالهم الجامح، وأشعر بحكّة في جلدي وأنا أحاول أن أحزر إن كان هذا التفصيل أو ذاك مبنياً على شخصية وأحداث حقيقة أم هو خيال محض، أم إن كان خليطاً بين الاثنين وهذا أغلب الظن. المهم، كعادة ابراهيم نصرالله، يروي ما حصل من زوايا متعددة من خلال شخصيات متعددة، تدفعك للتفكير والتحليل والتعجب في كثير من الأحيان، والبحث في أحيان أكثر، وتسارع الأحداث في الأجزاء الأخيرة جعلني كالعادة أسقط في فخ الصفحة الأخيرة الفارغة -الي بكرهّا كره العما!- عندما أقلبها ولا أجد شيئاً وأشعر بالقهر لأنّني أريد المزيد، يبدو أن هذا أصبح مقياسي الجديد لجودة كتاب ما، نجح طفل الممحاة في الاختبار، لكن ليس بجدارة الطفل الذي أخذ على نفسه تعليم الطيور الحذر، الجزء التالي سيكون "زيتون الشوارع"، سأقرأه بعد استراحة كتاب أو اثنين من الملهاة.


أمّا الكتاب الثاني، عن المدينة التي أحببتها قبل أن التقيها وتخيّلت نفسي فيها قبل أن أخوض في تفاصيل ما حدث بها (مطلوب ذاكرة مع صورة أخذت في بيروت)، بيروت، من خلال كتاب المناضل بسام أبو شريف الذي التقيته أثناء وقيع كتابه الجديد "بيروت مدينتي". للحقيقة، الوصف الأنسب لتناولي هذا الكتاب هو أنّني التهمته بنهم، فهذه الحقبة من تاريخ النضال الفلسطيني في بيروت تحتل مكاناً خاصاً في نفسي، لربما بدأ هذا الشعور عندما شاهدت فيلم "ناجي العلي" وأنا طفل، لا زلت أذكر خليط المشاعر التي عصفت بي وأنا أشاهد مشهد خروج الفدائيين منها باتجاه الموانئ (أول بضعة دقائق من هذا الفيديو). يتحدث أبو شريف في هذا الكتاب عن علاقته ببيروت، ويتأرجح في فصوله بين بدايتها عند دخوله الجامعة الأمريكية وبين نهايتها عند خروجه منها والأحداث التي سبقت ذلك، بين الخاص والعام كان الكتاب مشوّقاً، ممتعاً، وفي أحيان مؤلماً؛ عند وصفه لجسد غسان كنفاني الممزق عند اغتياله وكيف بقي نصف جسده الأعلى قطعة واحدة يعلوها وجه باسم في حين طار أصبعه الذي بقي خاتم زواجه متمسكاً فيه ليستقر على أغصان إحدى الأشجار، عند سقوط كل شهيد، عند حصول كل خيانة، عند صعودهم على الباخرة، الكثير ممّا يقشعرّ له البدن الحيّ، والكثير ممّا يدعو للفخر من صمود في معادلة لم تكن يوماً متكافئة. 
بت الآن أعرف أكثر عن بيروت، وفي بالي صورة تكاد تكون واضحة عن جامعتها الأمريكية، فنادقها ومقاهيها، وعلى سيرة مقاهيها، ضحكت عندما قرأت عن أحد المقاهي الذي كان اسمه "الهورس شو"، حيث كان ملتقى للصحافيين والمثقفين في منطقة الحمرا، ضحكت لأن أحد المقاهي المعرفة في عمّان في منطقة الجامعة الأردنية الذي أرتاده وأصدقائي يحمل نفس الاسم، وتكفيك زيارة واحدة لتعرف أن تشابه الاسم لا يعني بأي حال من الأحوال تشابه المضمون، بل سخرية القدر أن يكونا على طرفي نقيض، وهنا لا أنتقد هورس شو عمّان ولا روّاده، لكنّي ازددت اقتناعاً أنّني ولدت في الزمن الخطأ.
وددت لو أسهب بسام أبو شريف في التفاصيل أكثر في بعض المناطق، ولكن يبدوا أنّه ارتأى أن يتناول أهم محطات النضال في بيروت، قبلها وبعدها، دون الاستفاضة، وللحق لا أعرف كم كتاباً يلزم للإحاطة بكل التفاصيل في كل الأحداث، ولكي لا يفهم من كلامي أن الكتاب لا يحمل القيّم أو المفصّل، أأكد على أنّني عرفت الكثير لأول مرّة، عن عمليات الجبهة الشعبية في اختطاف الطائرات، عن خطف الطائرات في "مطار الثوار" في الأردن الذي لا نسمع عنها كثيراً، عن أحداث أيلول، عن الضغط باتجاه الخروج من بيروت منذ اليوم الثالث للعدوان الإسرائيلي، عن الموقف الأمريكي، وغيرها. يعني فكّر في هذا الكتاب بالنسبة لتواجد الفلسطينين في بيروت ككتاب "عالم صوفي" بالنسبة للفلسفة، مقرر 101، لا غنى أو ضير في قراءته حتّى لو لم تكن مولعاً بموضوعه.
ملاحظة: الكتابان موجودان في مكتبة "ريدرز" في كوزمو.
http://naserz.blogspot.com

Feb 10, 2010

بلاد المطربين.. أوطاني

مع إنّي بحبش أنسخ مقال نسخ بدون تعليق -بس الساعة صارت ألف و بدي أنام-، وبحبّش أي إشي بفيع فجأة -وهذا المقال فاع فجأة-، وبحبش أي إشي بيوصلني بفوروارد إيميل -وهذا وصلني بفورارد إيميل بعدين اكتشفت إنو معبّي الدنيا-، ومع إنّي مش من أكبر المعجبين بأحلام مستغانمي ومع إني ما قدرت أكمّل أوّل رواية إلها، بس! هذا الحكي عالوجع... خاصة جميلة بوحيرد اللي راكبة إيكونومي كلاس...إخص.



بلاد المطربين.. أوطاني

 - أحلام مستغانمي -
----------------------------------

وصلتُ إلى بيروت في بداية التسعينات، في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجوميّة العالميّة. أُغنية واحدة قذفت به إلى المجد• كانت أغنية "دي دي واه" شاغلة الناس ليلاً ونهاراً. على موسيقاها تُقام الأعراس، وتُقدَّم عروض الأزياء، وعلى إيقاعها ترقص بيروت ليلاً، وتذهب إلى مشاغلها صباحاً.

كنت قادمة لتوِّي من باريس، وفي حوزتي مخطوط "الجسد"، أربعمائة صفحة قضيت أربع سنوات في نحتها جملة جملة، محاوِلة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ النضالي للجزائر، إنقاذاً لماضينا، ورغبة في تعريف العالم العربي إلى أمجادنا وأوجاعنا.لكنني ما كنت أُعلن عن هويتي إلاّ ويُجاملني أحدهم قائلاً: "آه.. أنتِ من بلاد الشاب خالد!"، واجداً في هذا الرجل الذي يضع قرطاً في أذنه، ويظهر في التلفزيون الفرنسي برفقة كلبه، ولا جواب له عن أي سؤال سوى الضحك الغبيّ، قرابة بمواجعي. وفوراً يصبح السؤال، ما معنى عِبَارة "دي دي واه"؟ وعندما أعترف بعدم فهمي أنا أيضاً معناها، يتحسَّر سائلي على قَدَر الجزائر، التي بسبب الاستعمار لا تفهم اللغة العربية!

وبعد أن أتعبني الجواب عن "فزّورة";(دي دي واه)، وقضيت زمناً طويلاً أعتذر للأصدقاء والغرباء وسائقي التاكسي، وعامل محطة البنزين المصري، ومصففة شعري عن جهلي وأُميتي، قررت ألاّ أفصح عن هويتي الجزائرية، كي أرتاح.
لم يحزنّي أن مطرباً بكلمتين، أو بالأحرى بأغنية من حرفين، حقق مجداً ومكاسب، لا يحققها أي كاتب عربي نذر عمره للكلمات، بقدر ما أحزنني أنني جئت المشرق في الزمن الخطأ.

ففي الخمسينات، كان الجزائري يُنسبُ إلى بلد الأمير عبد القادر، وفي الستينات إلى بلد أحمد بن بلّة وجميلة بو حيرد، وفي السبعينات إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد ... اليوم يُنسب العربي إلى مطربيه، وإلى الْمُغنِّي الذي يمثله في "ستار أكاديمي" ... وهكذا، حتى وقت قريب، كنت أتلقّى المدح كجزائرية من قِبَل الذين أحبُّوا الفتاة التي مثلت الجزائر في "ستار أكاديمي"، وأُواسَى نيابة عنها .... هذا عندما لا يخالني البعض مغربية، ويُبدي لي تعاطفه مع صوفيا.
وقبل حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، كنت أتابع بقهر ذات مساء، تلك الرسائل الهابطة المحبطة التي تُبث على قنوات الغناء، عندما حضرني قول "ستالين" وهو ينادي، من خلال المذياع، الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، صائحاً: "دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي". وقلت لنفسي مازحة، لو عاودت إسرائيل اليوم اجتياح لبنان أو غزو مصر، لَمَا وجدنا أمامنا من سبيل لتعبئة الشباب واستنفار مشاعرهم الوطنية، سوى بث نداءاتورسائل على الفضائيات الغنائية، أن دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم ومروى وروبي وأخواتهن .... فلا أرى أسماء غير هذه لشحذ الهمم ولمّ الحشود.

وليس واللّه في الأمر نكتة. فمنذ أربع سنوات خرج الأسير المصري محمود السواركة من المعتقلات الإسرائيلية، التي قضى فيها اثنتين وعشرين سنة، حتى استحق لقب أقدم أسير مصري، ولم يجد الرجل أحداً في انتظاره من "الجماهير" التي ناضل من أجلها، ولا استحقخبر إطلاق سراحه أكثر من مربّع في جريدة، بينما اضطر مسئولو الأمن في مطار القاهرة إلى تهريب نجم "ستار أكاديمي" محمد عطيّة بعد وقوع جرحى جرّاء تَدَافُع مئات الشبّان والشابّات، الذين ظلُّوا يترددون على المطار مع كل موعد لوصول طائرة من بيروت.

في أوطان كانت تُنسب إلى الأبطال، وغَدَت تُنسب إلى الصبيان، قرأنا أنّ محمد خلاوي، الطالب السابق في "ستار أكاديمي"، ظلَّ لأسابيع لا يمشي إلاّ محاطاً بخمسة حراس لا يفارقونه أبداً .. ربما أخذ الولد مأخذ الجد لقب "الزعيم" الذي أطلقه زملاؤه عليه! ولقد تعرّفت إلى الغالية المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد في رحلة بين الجزائر وفرنسا، وكانت تسافر على الدرجة الاقتصادية، مُحمَّلة بما تحمله أُمٌّ من مؤونة غذائية لابنها الوحيد، وشعرت بالخجل، لأن مثلها لا يسافر على الدرجة الأُولى، بينما يفاخر فرخ وُلد لتوّه على بلاتوهات "ستار أكاديمي"، بأنه لا يتنقّل إلاّ بطائرة حكوميّة خاصة، وُضِعَت تحت تصرّفه، لأنه رفع اسم بلده عالياً!

ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه.. أواه.. ثمّ أواه.. مازال ثمَّة مَن يسألني عن معنى "دي دي واه.
http://naserz.blogspot.com