Aug 23, 2008

Honoring my father III - هوامش

هوامش
----
جلسا على الشرفة في السادسة صباحاً، النسيم البارد وانعكاس اشتعال الشمس على البناية المقابلة أخذهما الى صباحات الوطن، العصافير لا تغرد بهذا الشكل هناك! لكن أحدهما لم يكسر سكون اللحظة بهذا التعليق. فضّلا التحديق في محيطهما واسترجاع ما أمكن استرجاعه من طعم لون الصباح هناك ورائحة صوت غليان القهوه، التي باتت جاهزة للتقديم.

سكب فنجان والده أولاً، ما زال متمسكاً بتلك التفاصيل الصغيرة التي تمنح الهوية الحقيقيه، تلك التي تمنحنا خصوصية ما نحن، شعب نشرب القهوة في الصباح ولا نكترث إن كانت مضرة بالصحة. وضع الفنجان برفق على حافة الشرفه الضيقة، نظر في عينَيّ والده بفرح، هذا أول لقاء لهما كراشِدَين! اليوم يشربان القهوه ويدخنان معاً! اليوم تتحقق الأمنيه، رجُلان! لا أبٌ وطفل.

فكّر... سأخبره أولاً عن من تبقّى من أصدقاءه في الوطن، وكيف يستحضرون وجوده من خلال طباعي وتصرفاتي، لكن بعد أن يرشف قليلا من القهوة أولاً، تلك الفترة بين التحديق في الفنجان والرشفة الأولى لا يجب أن تقاطع لأي سبب كان. ثم سأخبره عن أصدقائي أنا! لا لا ! سأخبره عن أخي الصغير أولاً! يجب أن أريه أنني واع وأستطيع التعامل مع المواقف الصعبه والمهمه بقدر من النضوج. أخي الصغير سيكون مثالاً جيداً.

سكب فنجاناً لنفسه وجلس بجانبه. حدقا في الأفق، صوت فنجان القهوة في رحلة الصعود الى الفم وعودته الى صحنه تماشت مع المحيط بسلاسه، لم يكن صوتاً فظاً على الإطلاق.

وجد لصوته فسحة وانطلق: أتعلم؟ لقد التقيت بصديقك الكاتب في عمّان قبل فترة وجيزة في مقهى عمون، لم يعرفني للوهلة الأولى، أنا ما زلت أذكره مذ كنت صغيراً، كأن ملامحه لم تتغير أبداً! الرجال بعد سن معينة يتوقفون عن النمو، أما النساء يكبرن، ينضجن! وكان معي ديوان شعر! آه نسيت أن أخبرك، لقد حضرت حفل توقيع كتاب محمود درويش! أخيراً التقيته، في المرة القادمة سأطلب نسخة موقعة لك أيضاً... ندمت وأنا قادم في الطائرة لأنني لم أطلب نسخة موقعة باسمك، ندمت على أشياء كثيرة أجّلتها مراراً، رحلة الثمان ساعات كانت كافية لمراجعة أحداث أربع سنوات.

لم ينتظر رداً، فهويعرف والده جيداً، هو لا يجيد فن تبادل الكلام لمجرد الحديث فقط! كان يعرف أنه يجب أن يستفزه، أو أن يثير إعجابه بشئ ما، تابع حديثه بشيء من الفخر: بالمناسبة، صديقك كان سعيداً بصحبتي! تحدثنا في مواضيع سياسية! نعم! آه نسيت أن أخبرك أيضاً، أنا الآن ناضج سياسياً، مارست الكثير من النشاطات في الجامعة، تعرّفت على صديق جديد بطريقة عجيبة بعد سفرك مباشرة ،اسمه مثل اسمي، ووالده وأنت رفاق منذ زمن بعيد، نضجنا معاً كما نضجتما معاً! أتذكر حين كنتُ في الثامنة من العمر وأردتُ الذهاب معك وأمي الى "مظاهرة جبل الحسين"؟ حينها أخبرتني أنه يمكنني فعل ذلك في الجامعة.. أتذكر؟ على أية حال سأعترف لك بأمر؛ في تلك المرة وددت الذهاب لأرى كيف ترش الشرطة المتظاهرين بالماء! أردت رؤية سيارة الإطفاء عن قرب لا أكثر.

مد له سيجارة بعد هذه المقدمة، شعر أنه بدأ يحتل مكانته كرجل واع لا يخجل من الاعتراف بحقيقة نواياه، ابتسم له ووضعها بجانب فنجان قهوته الذي ما زال ينتظر إقلاع رحلة الرشفة الأولى.

تساءل لماذا لم يأخذ أي رشفة للآن! ألا يحبها مرّة؟ أنا لا أحبها مرة أيضاً! اعتقدت أنها ستترك انطباعاً جيداً! أنا لا أشرب القهوة أساساً! ربما لا يحب سجائري الخفيفة هذه! يجب أن أستبدلها بنوع آخر لونه أحمر! أم أنني تحدثت كثيراً؟ ربما يجب أن أتروّى في طريقة كلامي، أنا لست شاباً طائشاً مندفعاً، تمتم لنفسه.

سنأكل اليوم سمكاً مشوياً! أتذكر عندما وعدتك بعشاء سمك مشوي في مكالمتنا الأخيرة؟ لا أدري لماذا كانت مكالمة طويلة جداً! فأنا لم أخطط لأن أفاجئك بزيارتي هذه بهذا الشكل في حينها!

لم يرد عليه أيضاً! لكنه تفحص وجه ابنه جيداً! تغيّر كثيراً مذ فارقه قبل أربع سنوات ونصف. لكن شعر وجهه المتفرّق ما زال مبعثراً ومضحكاً كما كان في بداية نموه... أصبح الآن جزءه المفضل من وجهه. حرّك فنجانه لليسار قليلاً، ترقّب أن يبادله والده كلمة واحدة! لكنه لم يفعل! بل اتكأ على الكرسي براحة أكبر، عقد يديه خلف رأسه وأخذ يحدق في شعر وجهه بتمعن أكبر.

 ربما هومضطرب للقائي المفاجئ هذا؟! كان يجب أن أخبره بقدومي! أم أنه لا يريد أن أراه في هذا الظرف! غرفته الصغيرة هذه لا تدل على وضع مادي مريح! أيعقل أنه ما زال يبحث عن نجاح أخر ولا يريد أن يراني قبل أن يحققه؟ ألهذا لم يأخذ إجازة واحدة للزيارة طوال هذا الوقت؟ أليست هذه طباع المحاربين على أيّة حال؟ سأحمله على الحديث بأي شكل كان، قرّر.

تصنّع العفوية وقال: أوه لوتعلم، لدي صديقات كثر! محبوب أنا بين أصدقائي خاصة الفتيات منهم! ابتسم بخجل وأحس بالغباء لوهلة! ليس هكذا يحمله على الكلام! تدارك الموقف بسرعة وسأله: أخبرني كيف كانت النساء في شبابك؟ كيف التقيت بأمي؟ كيف قلت لها أحبك؟ أين كنتما تخرجان؟ أمي قالت لي أنكما اعتدتما الذهاب لمطعم القدس في وسط البلد! وسط البلد؟ تأخذ أمي لوسط البلد يا رجل؟! هل كان قدومي للدنيا مخططاً له أم أنني كنت نتاج صدفة وحادث عرضي؟ لقد أجريت حساباتي بدقة، وتبعاً لتاريخ ولادتي وفترة حمل أمي بي، لا بد أنني بدأت التكوّن في رحمها ليلة رأس السنة! أوليلة الميلاد المجيد! أنا متأكد! ليست صدفة أن اليومان في ذالك العام كانا يومي خميس ها!؟ تزوجتما يافعَين، لماذا؟ هل كان قراراً طائشاً؟ هل كنتَ شاباً طائشاً؟ ربما فكرتما أنكما ستريان أحفادكما وأنتما لا تزالان بصحة جيدة؟ هل توقعت أن يكون لك أحفاد في سنك هذه؟ عليك الانتظار بضعة أعوام، لا تبدأ أرجوك، دع عنك حديث الزواج، أرجوك! ماذا عن باقي إخوتي؟ أخبرني كل شئ كل شئ، نحن الآن مثل الأصدقاء.

أمطره بهذه الأسئلة واحداً تلو الآخر دون توقف، تماماً كما كان يلقيها على نفسه أمام المرآة يوماً بعد يوم مذ سافر والده حتى تلك اللحظة المنشودة، لم يحرك والده ساكناً، ما زال يتفحص وجهه ويراقب لغة جسده ويداه اللائي يأبين السكون عندما يتحدث.

أخذ نفساً عميقاً وبدا مضطرباً، حاول أن يراجع ما قاله علّه يفهم سبب صمت والده، اعتقد أنه لربما تجاوز خطاً أحمراً! ربما أغضبه! كل هذه الأفكار دارت في خلده! أحس بالغضب.. ليس هكذا تخيل هذه اللحظه في تأملاته الليلية، تخيلها مليئة بالحياه، بالضحك، بالسمك المشوي، بالسجائر، وحتى الكحول! كانت مشاركته والده كأس كحول على رأس قائمة أولوياته، لم يأبه لملاحظات صديقه المتكررة حول هذه النقطة بالذات، فهو يعتقد أنه ثائر بطبيعته، ثائر على أي شئ وكل شئ، وشرب الكحول مع والده ليس إلاّ شيء يفعله صديقان ويضرب بعرض الحائط كل المحاذير التي يعتبرها "متخلّفة". لا يدري لماذا يجد في نفسه حاجة ملحّة لأن يثبت لوالده أنه الآن ند له بأي طريقة كانت.

بردت القهوة في مكانها ولم يشرب منهما شيئاً. الشمس ارتفعت والحرارة أصبحت مزعجة، دعاه للجلوس في الداخل، فتح له باب الشرفه الزجاجي ودعاه للدخول قبله.. وقفا للحظة صامتين، كل منهما ينتظر الآخر ليقول شيئاً، بادر كالعادة وقفز وفتح حقيبة سفره، نثر الكتب التي أحضرها معه على الأرض، تنقّل بينها بسرعة ملخصاً محتوى كل منها مبدياً ملاحظاته، أخبره كيف أنه قرأ أحد كتبه من مكتبته القديمة التي انتهت محتوياتها في العلية الرطبة، وكيف ضحك كثيراً عند قراءته للملاحظات التي تركها على الهوامش، ملاحظات عمرها عشرون عاماً أوأكثر، وكيف كان يرد بدوره على ملاحظاته على الهامش الاخر للصفحة. ملاحظات تحولت إلى رسائل، رسائل تحولت كتباً في كتاب. فتح إحدى تلك الكتب وقام يريه أين انتهى نقاش الهوامش هذا في أحد كتب الدكتورة نوال السعداوي، كان نقاشاً هامشياً ثلاثي المحاور هذه المرة، أمّه أيضاً كان لها تعليقاتها الأكثر إضحاكاً على ذلك الكتاب بالتحديد: "ملخص: كل الرجال كلاب؟". لكن جرس الباب قاطع حديثه بفظاظة! نظر لساعته، إنها السابعة، لا بد أنه صديق والده المقرب في الغربة، كعادته دقيق في مواعيده! فتح له الباب وعيناه ملأى بقطرات تنتظر إذن الخروج. دخل الرجل الغرفة، نظر للكتب المتناثرة على الأرض، رأى الفنجانَين والسيجارة، استرق نظرة على الكتاب الذي كان بيده، قرأ بعضاً من الهوامش. مسح دمعته التي انسلّت على وجنته أخيراً، احتضنه بقوّة ...
 اليوم نزور قبره، لا تحزن.
http://naserz.blogspot.com

16 comments:

Unknown said...

naser ! I'm speechless ! allah yer7amo ! wo I'm sure he is very proud that u r his son !

Anonymous said...

Naser,
It was very hard for me to read your posts honoring your dad and the one about how to deal with death..Allah yer7amo w yej3al maskano el janneh ya rab..

You are lucky that you have all these memories of him to cherich..we will mark 21 years of my dad's passing in September..What I remember of him is not much because I was little,and I don't have any of his belongings,and no grave to visit..all I have is little picture I keep with me .. all I know that he was very loving and caring..
I think your dad will be proud of the way you are keeping and honoring his memory..I only wrote once about my dad, in september of last year..
I think you should let go of his material belongings.. give it to charity and set him free..
Allah yer7amo..

NasEr said...

Thank you Yasmine ,thx dear.

NasEr said...

noura I'm rarely out of words, but i think you'd understand.i don't know wut to say!! :))
really sorry to hear about your dad, but in 20 years,i bet that I won't have much more to tell someone who lost a dear than what you just did :)
thank you ,I'm sure your dad is also proud of you i just read your entry..! dam i'm really out of words I'm just so moved!! thx again :)

Waed S. said...

Naser ... u write with such an ease , that was so touching :)

"،ما زال متمسكا بتلك التفاصيل الصغيرة التي تمنح الهوية الحقيقيه ، تلك التي تمنحنا خصوصية ما نحن ، شعب نشرب القهوة في الصباح ، ولا نكترث بأنها مضرة بالصحه"

Allah yer7amo ya rab =)

poprage said...

ابننا كبير و بخافش عليك

شد حيلك

=]

NasEr said...

thx lost within that was my 1st story writing attempt .came from the heart I'm not sure if i can do it again :)

NasEr said...

poprage teslam ya wardeh :)

Big Pearls said...

allah yer7amah o yeqamed ro7ah il jana

NasEr said...

thank you big pearls

Unknown said...

Naser - What a fantastic entry. The way you write is magnificent, it really touched me. I lost my father when I was four. And he, like your dad, was a great human, father and friend. With no doubt, he is proud of you. Keep up the great posts and the rebellious spirit!


Ammar
blog.ammaribrahim.com

NasEr said...

ahlan Ammar ,thx for your kind words. Sorry to hear about ur dad buddy :).
but wut r the chances,i jsut came across your blog yesterday to the 1st time and u r here today :d
thx for passing by.

sheeshany said...

الله يرحمه و يحسن إليه و يجمعكم فيه

Naser said...

شكراً هيثم

_Strawberry_ said...

you brought tears to my eyes, the way you ended your story is just amazing!
May god rest his soul in peace.

NasEr said...

@_Strawberry_ thank you.. and sorry for the belated reply.. something was wrong with the notifications system

Post a Comment